الرجاء في الأزمنة الصعبة
خادم الرب د. فايز فؤاد
الرجاء في الأزمنة الصعبة
«وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ النَّهَارُ» (أع27: 29)
«مُنْتَظِرِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ» (يه21)
يا له من ليل يشتد ظلامًا! ليل رفض ربنا يسوع المسيح من العالم، وليل غيابه عنا .. الزمان صعب .. الإثم يتزايد .. كلمة الله مرفوضة .. ابن الله يُهان حتى وسط المسيحية الاسمية .. مبادئ الارتداد تزداد قوة وتأثيرًا .. العالم يُكمل مكيال إثمه لوقوع دينونة الله عليه .. وهوذا «عَلَى الأَرْضِ كَرْبُ أُمَمٍ بِحَيْرَةٍ» .. و«حُرُوبٍ وأَخْبَارِ حُرُوبٍ» .. و«زَلاَزِلُ عَظِيمَةٌ فِي أَمَاكِنَ وَمَجَاعَاتٌ وَأَوْبِئَةٌ» .. «وَﭐلنَّاسُ يُغْشَى عَلَيْهِمْ مِنْ خَوْفٍ وَانْتِظَارِ مَا يَأْتِي عَلَى الْمَسْكُونَةِ» .. الفوضى سائدة في كل مكان .. والناس قائمون ضد القوانين والأنظمة .. الثورات والاضطرابات في جميع الأنحاء .. والشرور تزداد بلا خجل ولا حياء .. الكفر والإلحاد والفجور والإباحية تنتشر .. كل القيم الروحية تُهدَّم .. والمسيحية المعترفة – بكل أسف – أثبتت فشلها كإناء للشهادة ومُستودعًا للحق .. ألا ترى التحول عن الله إلى مجرد ممارسة طقوس وفرائض أدخلها الشيطان، وحوَّل بها المسيحية إلى عبادة وثنية واستعباد لأركان ضعيفة، وصورة خارجية للتقوى مع إنكار قوتها .. وها قد انتشرت في المسيحية خطية العبد الرديء الذي قال فِي قَلْبِهِ: «سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ» (لو12: 45). فذلك العبد لم يُنكر علنًا مجيء المسيح، ولم ينضم إلى الملحدين المستهزئين الذين يقولون: «أَيْنَ هُوَ مَوْعِدُ مَجِيئِهِ؟ لأَنَّهُ مِنْ حِينَ رَقَدَ الآبَاءُ كُلُّ شَيْءٍ بَاقٍ هَكَذَا مِنْ بَدْءِ الْخَلِيقَةِ» (2بط3: 3, 4)، ولكنه بينما يعترف بمجيء الرب كعقيدة، فإنه يهمله كرجاء بأن ينغمس في الشهوات الجسدية والارتباطات العالمية، قائلاً فِي قَلْبِهِ: «سَيِّدِي يُبْطِئُ قُدُومَهُ».
نعم، إن الظلمة القصوى تزحف علينا .. الليل يسوَّد ويشتد سواده .. والذين يقولون أن العالم يتحسن وسيعُم الرخاء والسلام عما قريب، ليس لهم بصيرة روحية، ولا هم مدركون لنبوات الكتاب المقدس، ولا لظروف العالم الحالية.
إن كل شيء مُظلم حتى فيما يختص بالمسيحية المعترفة اليوم .. إن ظلمة التعليم الشرير والارتداد والخراب الأدبي تزداد. والكتابات النبوية تُكلّمنا عن مشهد الظلمة والشرّ في الأيام الأخيرة للمسيحية (اقرأ 2تس2؛ 2تي3؛ 2بط2, 3؛ رسالة يهوذا)، وجميعها تصف أيام الظلمة هذه مع ازدياد الشر، وأحوال بلا أمل في إصلاح أو شفاء.
ففي رسالة تيموثاوس الثانية نجد الخراب يدب في المسيحية، وأما عودة الكنيسة إلى جمالها وإلى قوتها الأولى وترتيبها، فلا توجد إشارة إلى ذلك.
والرسول بطرس، في رسالته الثانية، يكتب عن نفس هذه الأيام، ويذكر فسادًا يستشري في العالم، وبدع هلاك وتجديفًا على الحق، وفجورًا عتيدًا أن يكون، وميلاً إلى النجاسة، ولكنه لا يُشير إلى قوة تعود للكنيسة كمجموع.
نعم – أيها الأحباء – إننا لا ننتظر تحسنًا في الظروف والأحوال. والأيام المقبلة لن تكون أفضل من الماضية. بل إن الكتاب يُخبرنا أن الشرّ سيزداد «إِلَى أَكْثَرِ فُجُورٍ» (2تي2: 16)، و«النَّاسَ الأَشْرَارَ الْمُزَوِّرِينَ سَيَتَقَدَّمُونَ إِلَى أَرْدَأَ، مُضِلِّينَ وَمُضَلِّينَ» (2تي3: 13)، والشرّ سيزداد، والإضطرابات ستتفاقم، فنحن في «الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ» و«الأزْمِنَةٌ الصَعْبَةٌ» التي تسبق مجيء المسيح الثاني (2تي3: 1)، وهي مقدمات للضيقة العظيمة. ويقينًا أننا الآن في آخر لحظات الليل، وبعد قليل سيبزغ «كَوْكَبُ الصُّبْحِ الْمُنِيرُ»؛ فشدة الظلام تُنبىء بقرب بزوغ الفجر.
ويهوذا أيضًا يكتب عن أيام الانحطاط والارتداد، وعن خراب المسيحية الاسمية، ولكنه لا يتكلم شيئًا عن استرداد القوة الروحية للكنيسة أو استرجاع جمال الترتيب الإلهي فيها بصفة عامة. ولكن بعد أن تحدَّث عن الارتداد المُريع والشر، فإن يهوذا يتحول إلى المؤمنين «الأَحِبَّاء»، ويُحرّضهم أن يفعلوا أربعة أمور؛ هذه هي الأربعة الأشياء الضرورية في يوم الشر (يه20, 21):
فأول كل شيء: «ابْنُوا أَنْفُسَكُمْ عَلَى إِيمَانِكُمُ الأَقْدَسِ»، أي مبادئ الإيمان كما تسلمناها من كلمة الله مباشرة، بعيدًا عن أي إضافات بشرية، أو اجتهادات عقلية باطلة.
ثم يقول: «مُصَلِّينَ فِي الرُّوحِ الْقُدُسِ»؛ فيجب على كل مؤمن حقيقي أن يصرف وقتًا مُتكلمًا مع الله الذي تحدَّث إليه في الكلمة المكتوبة. والصلاة في الروح ليست هي صلاة الواجب، أو الصلاة الشكلية، أو مجرد تكرار كلمات، بل هي الصلاة المقودة بالروح القدس، والتي تتطلب سلوكًا في الروح، وتدريبًا في الحكم على الذات.
وثالثًا: «احْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ فِي مَحَبَّةِ اللهِ». ليس المعنى هنا أننا يجب أن نحب الله، مع أن هذا ما يجب أن نفعله بالتأكيد، بل أننا نحفظ أنفسنا في التمتع بمحبته؛ أن يخصص كل منا محبة الله لنفسه، وأن نفسر كل أعماله معنا على أساس هذه المحبة الغير المحدودة. ويجب أن نظل واثقين أن محبته تعتني عناية دقيقة بكل منا في كل ظروف حياتنا؛ السار منها والمُحزن.
ورابعًا: فإننا نُحرَّض لكي نكون «مُنْتَظِرِينَ رَحْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ». إن رحمة ربنا يسوع المسيح تُشير هنا إلى عودته الوشيكة لأخذ شعبه إلى موطنهم السماوي. ففي أيام الظلمة والارتداد، علينا أن نُبقي على نور الرجاء المبارك مُشرقًا في قلوبنا. وهذا الرجاء سيعمل على تعزيتنا وتطهيرنا (1تس4: 18؛ 1يو3: 3). إن مجيء الرب إلينا سيُصبح رحمة عظيمة للقديسين – إنقاذًا وخلاصًا لخاصته من كل الشرور والضغوط، ومن كل أشكال خراب المسيحية الأسمية، وأيضًا من كل المصاعب المحيطة بنا.
ويرى البعض في تحريضات يهوذا الأربعة (يه20, 21)، تصويرًا بديعًا للمراسي الأربع التي نقرأ عنها في رحلة الرسول بولس إلى روما (أع27)، والتي تمثل لنا رحلة الكنيسة المعترفة، من بدايتها المجيدة إلى أيامها الأخيرة. فما قد ابتدأ في العصر الرسولي في حالة إشراق وضياء، سينتهي به الحال إلى الخراب.
فالسفينة في أعمال 27 تُمثل المسيحية كإناء للشهادة للحق. ويا للأسف، لقد جاء وقت فُرِّغت فيه السفينة من الشَّحْن (أع27: 10, 18)، ثم طُرحت الْحِنْطَة في البحر (ع38). وما الشَّحْن والحِنْطّة إلا إشارة إلى الحق الذي أؤتمنت الكنيسة عليه، لا لكي تُعلِّمه – لأنه ليس لها مطلقًا سلطة التعليم – وإنما وُضعت عليها مسؤولية الاحتفاظ به.
كما جاء الوقت الذي ما عادت إنذارات الرسول بولس أن تلقى آذانًا صاغية. فالحق الإلهي، الذي يُمثله الرسول بولس، لم يعد يُطاع في السفينة (ع11). وكلمة الله متى أُغفل أمرها فلا بد أن تسوء الأمور. ولقد أتى وقت كان فيه كل شيء مظلمًا وبلا أمل «وَإِذْ لَمْ تَكُنِ الشَّمْسُ وَلاَ النُّجُومُ تَظْهَرُ أَيَّامًا كَثِيرَةً، وَاشْتَدَّ عَلَيْنَا نَوْءٌ لَيْسَ بِقَلِيلٍ، انْتُزِعَ أَخِيرًا كُلُّ رَجَاءٍ فِي نَجَاتِنَا» (ع20).
واحتجاب السماء عن ركاب السفينة يُشير إلى أن الدعوة السماوية قد غابت عن الكنيسة، وفقدت المسيحية طابعها السماوي، فما عاد هناك رجاء للسفينة؛ إنه مقضي عليها بالدمار. إن السفينة ستنكسر – كما قال بولس – ولكن لن تكون هناك خسارة نَفْسٍ وَاحِدَةٍ (ع22). كذلك الكنيسة المُعترفة، كإناء للشهادة، ستنتهي بانكسارها، ولكن الرب سيأخذ لنفسه منها ، إلى المجد، كل مؤمن حقيقي.
نعم، ستتكسر السفينة، وستغوص كل القطع ولن تطفو ثانية، لكن كلمة الله تعلن أن كل مؤمن في المسيح يسوع له حياة أبدية، ولن يهلك إلى الأبد (يو10: 27, 28)؛ الجميع سينجو إلى الْبَرِّ الآمن (أع27: 44).
لاحظ أنه في أعمال27: 29 رموا أربع مراس «وَكَانُوا يَطْلُبُونَ أَنْ يَصِيرَ النَّهَارُ» (أع27: 29)، وبالنسبة لنا، فإن نهار مجيء الرب إلينا هو الرجاء والتوقع المشرق للكنيسة الحقيقية. وبينما كانت السفينة تضع المراسي كانت محفوظة، ولكن في اليوم التالي عندما نزعوا المراسي، تاركين إياها في البحر (ع44)، أنهم وقعوا في مكان ملتقى بحرين، وعندئذٍ تكسرت السفينة.
فعلينا – أيها الأحباء – أن لا نتخلى عن المراسي. إن دائرة الاعتراف المسيحي قد نزعت عنها هذه المراسي الواردة في يهوذا20, 21 ولم يعودوا يؤمنون بالكتاب المقدس أنه كلمة الله المعصومة والمُوحى بها. كما تحولوا عن الإيمان الأقدس، وتخلّوا عن الصلاة، ومحبة الله غير معروفة، ولم يعودوا يؤمنون أو يتطلعون إلى رجاء مجيء الرب، لذلك سرعان ما ستتكسر السفينة، والله سيرفضها نهائيًا.
ولكم نحتاج – أيها الأحباء – كمؤمنين وقعت قرعتنا في هذه الأيام الصعية أن ننتبه إلى مدلول تلك المراسي الأربع وأن نهتم بها. ومع أن كل شيء يبدو حولنا مظلمًا بلا أمل ، ومع أننا نُقرّ بعجزنا وضعفنا وفشلنا، لكننا ننتظر بزوغ فجر ذلك اليوم الذي تنتهي فيه كل مسبببات الحزن، وتستقيم كل الأمور. إن مجيء الرب وبزوغ كوكب الصبح المنير، هو شوق قلوبنا وتطلع أرواحنا، وهو الغرض الذي نطلبه ونبتغيه (قارن عب11: 14, 16).
أيها الأحباء ... ما أحرانا أن نرقب مجيئه عالمين أن خلاصنا الآن أقرب مما كان حين آمنا. «قَدْ تَنَاهَى اللَّيْلُ وَتَقَارَبَ النَّهَارُ» (رو13: 11-14)، ونجاتنا تقترب جدًا. وفي انتظارنا لمجيئه القريب لنكون معه كل حين (1تس4: 17)، لترتفع قلوبنا وأنظارنا عن مشهد الخراب هذا، ولتتشدد سواعدنا لنكون أمناء حتى النهاية، إذ أن نهاية كل شيء قد اقتربت، وهوذا «يأتَى صَبَاحٌ» (إش21: 12).
«آمِينَ. تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ » (رؤ22: 20)
فايز فؤاد